قصة نور الهداية

قصة نور الهداية
بذرة الإيمان
في قرية نائية وسط غابات كثيفة حيث الأشجار العملاقة تحجب ضوء الشمس، عاشت ليلى، فتاة في السادسة عشر من عمرها. كانت ذات وجه صبوح وعينين واسعتين تعكسان ذكاءً فطرياً وروحاً متسائلة. كانت الحياة في تلك القرية البعيدة تسير على وتيرة واحدة منذ قرون، يتوارث أهلها عبادة الأصنام الحجرية المنحوتة التي توزعت في معبد كبير وسط القرية وفي بيوتهم.
عاشت ليلى مع والديها وإخوتها الثلاثة في بيت خشبي متواضع على أطراف القرية. كان والدها من كبار العابدين للأصنام، يتفانى في خدمة المعبد، بينما كانت والدتها تعد الطعام وتقدم القرابين في المواسم والأعياد. نشأت ليلى وهي تشاهد طقوس عبادة الأصنام، لكن شيئاً في داخلها كان يتساءل دوماً عن جدوى تلك الأحجار الصماء.
في ذلك الخريف، وصل إلى القرية ثلاثة رجال غرباء. كانوا يرتدون ثياباً بسيطة ويحملون كتباً. استقر هؤلاء الدعاة في كوخ مهجور على مشارف القرية، وبدأوا يتحدثون مع الناس عن دين جديد يسمونه الإسلام. تحدثوا عن إله واحد لا شريك له، عن رحمته وقدرته، عن الحساب والجنة والنار.
استمعت ليلى خفية إلى أحاديثهم. كان قلبها يخفق بشدة كلما سمعت آيات القرآن وهي تُتلى بصوت شجي. شعرت بأن كلمات القرآن تخاطب روحها مباشرة، تجيب عن تساؤلاتها القديمة، تملأ الفراغ الذي طالما شعرت به وهي تنظر إلى الأصنام الصماء.
في ليلة ماطرة، تسللت ليلى إلى كوخ الدعاة. كان قلبها يرتجف خوفاً وشوقاً. قالت لهم بصوت متهدج: أريد أن أعرف المزيد عن هذا الإله الواحد.
استقبلها الشيخ إبراهيم، كبير الدعاة، بابتسامة طيبة وطلب منها الجلوس. حدثها عن التوحيد وعن الرسول محمد وعن كيف أن الله سبحانه خلق الكون كله بقدرته ورحمته. بكت ليلى تأثراً، وأحست أن نوراً عظيماً يغمر قلبها. في تلك الليلة، نطقت الشهادتين وأعلنت إسلامها.
عادت إلى بيتها وهي تحمل سراً ثقيلاً. كانت تصلي سراً في غرفتها، تتلو ما حفظته من آيات بصوت خافت. لكن سرعان ما اكتشفت والدتها أنها لم تعد تسجد للصنم الصغير الموجود في البيت.
محنة الثبات
في ذلك المساء، اندلعت العاصفة. صرخ والدها: أنت تخونين آلهة أجدادنا! هل جننت يا فتاة؟
أجابته ليلى بصوت هادئ رغم ارتجاف جسدها: لقد وجدت الحقيقة يا أبي، وجدت الإله الواحد الذي خلقنا جميعاً، لا هذه الحجارة التي نحتموها بأيديكم.
انهال عليها والدها ضرباً. كانت السياط تلهب ظهرها وهو يصرخ: سأخرج هذه الأفكار من رأسك، ستعودين إلى دين آبائك وأجدادك.
قالت ليلى وهي تبكي ألماً: لا أعود ولو قطعتموني إرباً.
تكرر المشهد نفسه كل يوم. في البيت كان والدها يضربها. في ساحة القرية، كان شيخ المعبد يأمر بجلدها أمام الجميع ليكون عبرة. في المدرسة، كان المعلمون ينهالون عليها سخرية وإهانة وضرباً.
وفي كل مرة، كانوا يسألونها: هل تعودين إلى دين أجدادك؟
وفي كل مرة كانت تجيب بثبات رغم الدموع والألم: لا أعود ولو قطعتموني إرباً.
كان جسدها النحيل يمتلئ بالكدمات، لكن روحها كانت تزداد قوة وإصراراً. في الليل، كانت تبكي من شدة الألم، لكنها كانت تصلي وتدعو الله أن يثبتها على دينه.
قال لها الشيخ إبراهيم يوماً وهو يرى آثار التعذيب على وجهها: أنت مثل سمية وبلال وعمار، أولئك الذين عذبهم كفار قريش، لكنهم ثبتوا على إيمانهم.
كان إيمان ليلى يتعمق مع كل ضربة تتلقاها. بعد شهر من العذاب المتواصل، قرر أهل القرية وضع حد لهذا التمرد. أعلن شيخ المعبد أنه سيتم طرد الدعاة من القرية وحرق كوخهم، وأن ليلى ستُجبر على التوبة أمام الأصنام أو ستُقتل.
علم الدعاة بالأمر، فقرروا الهرب ليلاً وأخذ ليلى معهم. تسللوا إلى بيتها في جنح الظلام، وساعدوها على الهرب عبر نافذة صغيرة.
قالت ليلى وهي تنظر إلى البيت الذي نشأت فيه للمرة الأخيرة: سأعود يوماً ما.
رحلت ليلى مع الدعاة إلى مدينة بعيدة، حيث وجدت ملاذاً آمناً في دار للفتيات المسلمات. عندما رأى المشرفون على الدار آثار التعذيب على جسدها، بكوا بحرقة. قالت لهم المشرفة: كيف تحملت كل هذا العذاب وأنت في هذا العمر الصغير؟
أجابت ليلى بابتسامة هادئة: كنت أشعر أن الله معي، يمنحني قوة لا أعرف مصدرها.
نور يعود إلى القرية
في المدينة، تعلمت ليلى القرآن والحديث والفقه. كانت تستيقظ قبل الفجر لمراجعة حفظها، وتقضي نهارها في طلب العلم. بعد ثلاث سنوات، أصبحت ليلى شابة واثقة متعلمة، تحفظ أجزاء كبيرة من القرآن، وتفهم أصول دينها.
في يوم ربيعي، قالت للشيخ إبراهيم: أريد العودة إلى قريتي.
نظر إليها الشيخ بقلق: ولكنهم قد يؤذونك مرة أخرى.
ابتسمت ليلى وقالت: لا أعود للانتقام، بل لأحمل لهم نور الهداية الذي أنقذني.
عادت ليلى إلى قريتها برفقة الشيخ إبراهيم واثنين من طالبات العلم. وجدت القرية كما تركتها، لكنها لاحظت أن المحاصيل كانت شحيحة والماشية هزيلة. علمت أن جفافاً شديداً ضرب المنطقة منذ عام، وأن شيخ المعبد أمر بتقديم المزيد من القرابين للأصنام لاسترضائها، لكن دون جدوى.
ذهبت إلى بيت والديها. فتحت أمها الباب، ووقفت مصدومة للحظات قبل أن تنهار باكية وتضمها إلى صدرها. كان والدها قد مرض مرضاً شديداً. دخلت إلى غرفته، فوجدته راقداً على فراشه، شاحب الوجه.
قال لها بصوت واهن: لقد عدت. هل جئت للانتقام؟
هزت ليلى رأسها وقالت: جئت لأسامحك يا أبي، ولأدعوك مرة أخرى لعبادة الإله الواحد، الذي بيده الشفاء والرحمة.
جلست بجوار والدها، تحدثت إليه عن الإسلام، عن رحمة الله وقدرته، عن الحياة والموت، عن المرض والشفاء. استمع إليها والدها صامتاً، وعندما انتهت، طلب منها أن تدعو له بالشفاء.
صلّت ليلى ركعتين، ثم رفعت يديها بالدعاء، وأمّن والدها على دعائها. بعد أيام، بدأت صحة والدها تتحسن تدريجياً. كان هذا أول تغيير في القرية.
جاء الناس يسألون عن سر شفاء والدها، فكانت تحدثهم عن الله وقدرته، وتعلمهم الدعاء. ثم حفرت بئراً قرب القرية بمساعدة الشيخ إبراهيم ورجال آخرين، وعلّمت النساء خياطة ملابس جديدة، وساعدت في تحسين طرق الزراعة.
كان الناس ينظرون إليها بدهشة، كيف تساعد من عذبوها وآذوها؟ فكانت تجيبهم: هكذا علمني ديني، أن أعفو وأصفح وأن أرد الإساءة بالإحسان.
تدريجياً، بدأ بعض أهل القرية يستمعون إليها. أسلم والداها أولاً، ثم تبعهما جارتهم العجوز، ثم معلم في المدرسة، ثم شباب وفتيات. كان شيخ المعبد يحاول إيقاف هذا المد، لكن الناس بدأوا يرون الفرق بين ليلى وبينه: هي تعطي وتساعد وتسامح، بينما هو يأخذ ويتسلط ويحقد.
في الصيف الثالث لعودتها، أسلم أكثر من نصف أهل القرية. هُدم المعبد وبُني مكانه مسجد صغير. كان الأذان يرفع خمس مرات في اليوم، والناس يتعلمون الوضوء والصلاة. وفي كل يوم جمعة، كانت ليلى تجلس مع النساء والفتيات تعلمهن القرآن.
عندما سُئلت ليلى يوماً عما تشعر به تجاه من عذبوها، قالت: لا أذكر الألم، بل أذكر فقط أنه كان طريقي إلى النور. ربما لو لم أُعذّب، لما تمسكت بإيماني بهذه القوة. العذاب كان نعمة في ثوب نقمة، علّمني الصبر والثبات والإخلاص.
في مساء هادئ، جلست ليلى مع والدها على شرفة البيت ينظران إلى المسجد الجديد. قال لها: لو عاد بي الزمن، لما عذبتك يا ابنتي.
ابتسمت ليلى وقالت: ولو عاد بي الزمن، لتحملت العذاب مرة أخرى، لأن الله اختارني لأكون سبباً في هداية هذه القرية.
كانت قرية ليلى نموذجاً لقرى أخرى في المنطقة. زارها الدعاة وطلاب العلم، وسمعوا قصة الفتاة التي صمدت أمام العذاب، ثم عادت لتنشر نور الهداية في قريتها. أصبحت ليلى رمزاً للصبر والثبات والعفو، وكان أهل القرية يفخرون بها ويعتبرونها نعمة من الله عليهم.
في نهاية المطاف، لم تكن قصة ليلى مجرد قصة إسلام فتاة، بل كانت قصة تحول مجتمع بأكمله من الظلمات إلى النور، من عبادة الأصنام إلى عبادة الرحمن. وكان سر هذا التحول يكمن في كلمة واحدة رددتها ليلى وسط العذاب: لا أعود ولو قطعتموني إرباً.