قصة الطريق غير المسلوك

قصة الطريق غير المسلوك
ساعدنا في نشر هذه القصة الجميلة.

تعتبر قصص قبل النوم من أجمل اللحظات التي تجمع بين الأحباب، سواء كانت قصص قبل النوم للكبار أو للصغار. في عالم مليء بالتشتت والضغوطات، تأتي قصص ما قبل النوم لتأخذنا في رحلة هادئة تُنهي يومنا بتأملات عميقة. قصتنا اليوم “الطريق غير المسلوك” هي واحدة من تلك القصص الطويلة قبل النوم التي تجمع بين الخيال والواقع، وتُعد من أروع قصص كبار قبل النوم التي تحمل معانٍ عميقة عن الحدس والشجاعة والإيمان بالذات.

هذه القصة المؤثرة من قصص قبل النوم مكتوبة بعناية، لا تقدم فقط متعة القراءة بل تحمل دروساً حياتية ثمينة. على عكس قصص قبل النوم قصيرة التي نقرأها عادة، فإن هذه القصة تأخذ وقتها في بناء الشخصيات وتطوير الأحداث، مما يجعلها مثالية لمن يبحث عن قصص قبل النوم طويلة ذات مغزى عميق. إليكم قصة واقعية ملهمة عن سائق حافلة استمع إلى حدسه الداخلي رغم معارضة الجميع، فكان ذلك سبباً في إنقاذ أرواح الكثيرين.

قصص قبل النوم: قصة الطريق غير المسلوك

قصة الطريق غير المسلوك

كانت السماء تتلبد بالغيوم الرمادية فوق قرية الوادي الأخضر الصغيرة، والتي كانت تقع بين سلسلة من الجبال العالية. الهواء البارد ينذر بقدوم عاصفة شتوية قاسية، والسحب الثقيلة تتراكم فوق القمم المرتفعة كما لو كانت تستعد لإطلاق حمولتها من المطر والثلج.

في هذه القرية الجبلية، كان عبد الكريم الصّيادي، سائق حافلة المدرسة الوحيدة في المنطقة، يستعد لبدء يومه كالمعتاد. كان رجلاً في الخمسين من عمره، خطت التجاعيد على وجهه المحروق بشمس الصيف وبرد الشتاء. كان ذا شعر أسود تخالطه خصلات فضية على الجانبين، وعينان بنّيتان عميقتان تعكسان حكمة السنين وخبرة الطرقات.

وقف عبد الكريم أمام مرآة منزله الصغير، يرتدي سترته الزرقاء السميكة. شعر بتلك الكآبة المألوفة تتسلل إلى صدره، كما يحدث كل صباح منذ رحيل زوجته قبل عامين. نظر إلى صورتها على الطاولة المجاورة، وتمتم بصوت مرتجف: “صباح الخير يا أم زياد. أشعر أن اليوم ليس كبقية الأيام. هناك شيء يثقل قلبي.”

مسح دمعة متسللة من زاوية عينه، ثم استجمع قواه. كان عبد الكريم يعمل سائقاً للحافلة المدرسية منذ عشرين عاماً، يعرف كل منعطف وكل مطب في الطرقات التي تربط القرية بالمدرسة. كان مسؤولاً عن نقل خمسة وعشرين طفلاً، أصغرهم في السادسة وأكبرهم في الرابعة عشرة.

في الأسابيع الأخيرة، بدأ يسلك طريقاً أطول تتجنب مروره بالجسر الكبير الرئيسي الذي يعبر الوادي العميق. كان هذا التغيير مثار جدل في القرية، خصوصاً أنه يضيف عشرين دقيقة إلى الرحلة،بينما طريق الجسر الكبير تاخد فقط 14 دقيقة, وبدأت الشكاوى تتزايد يوماً بعد يوم.

مع دقات الساعة السادسة صباحاً، أدار عبد الكريم محرك الحافلة الصفراء القديمة التي تصدر صوتاً حنوناً معروفاً لكل أطفال القرية. اعتدل في مقعده، وعدّل المرآة الأمامية، ثم انطلق ليبدأ جولته اليومية في جمع التلاميذ.

أول من صعد إلى الحافلة كانت أمل، الفتاة ذات الضفائر السوداء والابتسامة الدائمة. كانت ترتدي معطفاً أحمر متهالكاً ورثته عن أختها الكبرى.

“صباح الخير يا عم عبد الكريم! هل ستسلك الطريق الطويل اليوم أيضاً؟” سألت بفضول طفولي بينما كانت تمسح قطرات الندى عن معطفها.

ابتسم عبد الكريم ابتسامة مرهقة وهو يومئ برأسه: “بالطبع يا أمل. الطريق الآمن هو الأفضل دائماً، حتى لو كان أطول.”

“لكن أمي غاضبة،” قالت أمل وهي تجلس في المقعد الأمامي. “تقول إنها تتأخر عن عملها كل يوم بسبب تأخرنا في الوصول إلى المدرسة.”

انقبض قلب عبد الكريم، لكنه حافظ على ابتسامته: “أخبري والدتك أنني أفعل ما أراه أفضل للجميع.”

عند المحطة التالية، صعدت أم ياسر مع ابنها الصغير. كانت امرأة حادة المزاج، ووجهها يعكس التعب والإرهاق.

“سيد عبد الكريم، هذا الوضع لا يمكن أن يستمر!” قالت بصوت مرتفع قبل أن تدفع ابنها للصعود. “اتصلت بالمدير أمس، وعشرة من أولياء الأمور فعلوا الشيء نفسه. هذا الطريق الطويل يجعلنا نتأخر جميعاً!”

شعر عبد الكريم بالحرج أمام الأطفال، لكنه اكتفى بالرد بهدوء: “أفهم قلقك يا أم ياسر، لكن هناك أسباب…”

قاطعته بحدة: “أسباب؟ في كل مرة تخبرنا بشيء مختلف! مرة تقول إن هناك أعمال صيانة، ومرة تقول إن الطريق الرئيسي مزدحم، والآن ماذا؟”

كان صحيحاً أنه اختلق أعذاراً مختلفة كل مرة، لأنه كان يخجل من إخبارهم عن الحلم المتكرر الذي يراوده. كيف يخبر الناس أنه يقود حافلة أطفالهم بناءً على حلم؟

“سأحاول أن أكون أسرع اليوم،” اكتفى بهذا الرد وهو يغلق باب الحافلة.

مع توقف الحافلة عند كل بيت، صعد الأطفال واحداً تلو الآخر، يملؤون المقاعد ويثرثرون بحيوية. كان من ضمنهم زياد، ابن عبد الكريم، الذي كان في الصف التاسع. كان زياد يشبه والده في ملامحه وهدوء طبعه، لكنه كان يشعر بالإحراج من قرار والده بتغيير المسار.

“أبي، المدير اتصل بالبيت أمس. كان غاضباً جداً،” همس زياد لوالده وهو يمر بجانبه. “قال إنه سيضطر لاتخاذ إجراء إذا استمريت في تأخير الطلاب. وبعض الطلاب بدأوا يسخرون مني بسببك.”

تنهد عبد الكريم وهز رأسه، وشعر بتأنيب الضمير يمزق قلبه لأنه سبب الإحراج لابنه: “أعلم يا بني، لكنني لا أستطيع المرور بالجسر. هناك شيء ما… شيء ليس على ما يرام.”

في المقعد الخلفي، جلس سامر، ابن رئيس المجلس البلدي، يتحدث بصوت مرتفع متعمداً إسماع الجميع: “والدي يقول إن عم عبد الكريم صار يخرف. يريد استبداله بسائق آخر. لقد تحدث مع جميع أعضاء المجلس البلدي، وهم يتفقون معه.”

شعر عبد الكريم بألم حاد في قلبه، كما لو أن سكيناً قد طعنه. دخل في هذا العمل لحبه للأطفال وحرصه عليهم، وها هم الآن – أو بالأحرى آباؤهم – يريدون التخلص منه.

لكنه تجاهل الكلام وركز على الطريق أمامه. الحقيقة التي لم يخبرها لأحد هي أنه منذ شهر بدأ يرى نفس الحلم المتكرر كل ليلة بتفاصيل مرعبة: الحافلة تعبر الجسر، الهيكل المعدني يئن، ثم فجأة تنهار الدعامات واحدة تلو الأخرى… والحافلة تسقط في الوادي السحيق. صرخات الأطفال تملأ أذنيه، وإحساس السقوط الطويل يوقظه مذعوراً كل ليلة.

كان الحلم واضحاً وحيّاً لدرجة أنه يستيقظ مغطى بالعرق البارد. لم يكن من النوع الذي يؤمن بالخرافات، لكن هذا الإحساس كان مختلفاً. شعور عميق بالخطر يصعب تجاهله.

“هل سمعتم نشرة الأحوال الجوية؟” سأل محاولاً تغيير الموضوع، وقلبه يخفق بشدة من ذكرى الحلم. “يقولون إن عاصفة كبيرة ستضرب المنطقة اليوم.”

لم يهتم أحد بكلامه، فقد كان الأطفال الكبار مشغولين بالتذمر من التأخير المستمر، بينما كان الصغار يلعبون أو ينامون على المقاعد.

انعطفت الحافلة بهدوء حول منحنى جبلي حاد، تاركة وراءها الطريق الذي يؤدي إلى الجسر الرئيسي. كانت الدروب المؤدية إلى المدرسة متعددة في هذه المنطقة الجبلية، وكان الطريق الذي اختاره عبد الكريم أطول بكثير لكنه يمر عبر التلال العالية متجنباً الوادي تماماً.

مع اقتراب الحافلة من المدرسة، كان السيد مروان، مدير المدرسة، ينتظر بفارغ الصبر عند البوابة الرئيسية. كان رجلاً نحيفاً ذا نظارات سميكة ووجه حاد الملامح، وكان يضرب الأرض بقدمه بعصبية.

“متأخر مرة أخرى، سيد عبد الكريم!” قال بانزعاج واضح وهو ينظر إلى ساعته. علامات الغضب بادية على وجهه الشاحب. “هذه المرة العاشرة هذا الشهر. لا يمكننا الاستمرار هكذا! تلقيت أكثر من عشرين شكوى خلال الأسبوع الماضي فقط!”

نزل الأطفال من الحافلة متوجهين إلى صفوفهم، بينما وقف عبد الكريم أمام المدير محاولاً شرح موقفه. كان الخوف يتسلل إلى قلبه، ليس فقط من إمكانية فقدان عمله، بل من احتمال إجبار سائق آخر على استخدام الطريق القصير والمرور بالجسر.

“سيد مروان، أعلم أنني أسبب إزعاجاً، لكنني أحاول فقط ضمان سلامة الأطفال. أشعر أن الطريق الآخر غير آمن.”

“سلامتهم من ماذا بالضبط؟” سأل المدير بنفاد صبر، وقد احمرّ وجهه من الغضب. “الجسر آمن تماماً. لقد عبره آباء وأجداد هؤلاء الأطفال منذ خمسين عاماً! وقد خضع للصيانة قبل ثلاث سنوات!”

لم يستطع عبد الكريم شرح مخاوفه. كيف يخبر المدير أنه يخاف من حلم متكرر؟ سيبدو حتماً مجنوناً أو خرفاً كما يقولون.

“لدي اجتماع مع أولياء الأمور مساء اليوم،” قال المدير أخيراً، وهو يُحكم إغلاق معطفه ضد الرياح الباردة. “سنناقش هذا الموضوع، وأخشى أننا قد نضطر لإعفائك من مهامك إذا لم تلتزم بالمسار المحدد. أفهم تفانيك وخدمتك الطويلة، لكن لا يمكننا تعطيل المدرسة بأكملها بسبب… أوهامك!”

انتفض عبد الكريم عند سماع كلمة “أوهام”. شعر بالمرارة تملأ حلقه، فقد كرّس حياته لهذا العمل، وكان يعرف كل طفل بالاسم، ويحفظ تفاصيل حياتهم الصغيرة، ويهتم بهم كما لو كانوا أبناءه. والآن، يلقبونه بالمخرف والواهم.

طوال فترة الدوام المدرسي، جلس عبد الكريم في الحافلة، يراقب السماء التي ازدادت قتامة. كان قلبه ثقيلاً، ودموعه محبوسة. تساءل إن كان يجب عليه الاستسلام والعودة إلى الطريق القصير. ربما كان حقاً يتوهم. ربما كان الحلم مجرد نتيجة للقلق والوحدة بعد رحيل زوجته.

بدأت قطرات تزداد فوق زجاج الحافلة، وسرعان ما تحولت إلى سيل متواصل. كان الرعد يقصف في البعيد، والبرق يضيء السماء بومضات متقطعة. شعر أن هذه العاصفة مختلفة، كما لو كانت تؤكد مخاوفه.

في طريق العودة، تجمع الأطفال المبتلون بالمطر في الحافلة، وكانوا أكثر هدوءاً من المعتاد. كان المطر قد تحول إلى عاصفة حقيقية، والرياح تهز الحافلة بين الحين والآخر.

قال أحد الأطفال بضيق سنتأخر أكثر بسبب هذا المطر

” أضاف آخر “ماما ستنزعج إذا تأخرت مرة أخرى.

شعر عبد الكريم بضغط هائل على صدره. بدأ يتساءل: هل كان من الأفضل أن يعود إلى الطريق القصير، خاصة مع هذا الطقس؟ لكن صور الحلم المرعبة عادت لتغزو مخيلته.

في تلك اللحظة، توقف هاتف عبد الكريم عن العمل. كانت شبكة الاتصالات في المنطقة دائماً ضعيفة أثناء العواصف. لكن فجأة، انطلق جهاز الراديو في الحافلة ليعلن عن نشرة عاجلة:

“نداء عاجل لجميع سكان منطقة الوادي الأخضر، السلطات تحذر من فيضانات وانهيارات أرضية محتملة. يرجى توخي الحذر وتجنب المناطق المنخفضة

انقبض قلب عبد الكريم. نظر إلى المرآة ليرى وجوه الأطفال القلقة. الخوف يشع من عيونهم الصغيرة، لكنه حاول طمأنتهم:

“لا تقلقوا، نحن في طريق آمن. سنصل إلى منازلكم بسلام. أعدكم بذلك.”

مع اقترابهم من مفترق الطرق، حيث ينقسم الطريق بين المسار القصير عبر الجسر والمسار الطويل عبر التلال، كانت سيارات الشرطة تنضم عملية السير كامعتاد في مفترق الجسر ولكن هذه المرة اعدادهم اكثر بسبب العاصفة

بدا عبد الكريم يفكر مذا يفعل واي الطريقين يسلك هل ستمع الى قلبه والحلم الذي يراوده او الى نبرات الغضب من اولياء الامور والمدير وانه سيفقد عمله ولكنه تذكر ان سلامة الاطفال هي الاهم

و أعلن للأطفال،سنأخذ الطريق الطويل كالمعتاد، الذين أصبحوا الآن أكثر هدوءً وتقبلاً لقراره. حتى سامر الذي كان يسخر منه صباحاً، كان الآن صامتاً وخائفاً.


في المدرسة، كان السيد مروان يستعد للرحيل بعد يوم حافل مع اولياء الامور واستيائهم. كان يستمع للأخبار تتناقل عن إغلاق الطرق وإخلاء المناطق القريبة من النهر. شعر المدير بالقلق يعصر معدته، وبدأ يتذكر كلام عبد الكريم صباحاً.

همس لنفسه، وقطرات العرق البارد تنساب على جبينه لقد حاول إخباري

رن هاتف الفيكس المخصص للمدرسة ، وكانت أم أمل على الطرف الآخر، صوتها يرتعش من الخوف: “سيد مروان، هل تعرف أين الحافلة الآن؟ الجسر معرض للانهيار، والأطفال…”

قبل أن يكمل المكالمة، رن الهاتف مرة أخرى، ثم مرة ثالثة. كان جميع أولياء الأمور يتصلون في وقت واحد، والقلق والخوف يملأ أصواتهم.

حاول المدير الاتصال بعبد الكريم، لكن الشبكة كانت مقطوعة. شعر بالذنب يغمر قلبه. لقد كان قاسياً مع الرجل العجوز، اتهمه بالوهم والخرف، بينما كان عبد الكريم يحاول حماية الأطفال طوال الوقت.


بينما كانت الحافلة تصعد التلال الملتوية، والمطر يزداد غزارة، سمعوا صوتاً هائلاً في الوادي أسفلهم، أقوى من الرعد، كما لو أن الأرض نفسها تئن.

توقف عبد الكريم عند منعطف يطل على الوادي، وطلب من الأطفال البقاء في مقاعدهم. خرج ليرى ما يحدث، ولحق به زياد وبعض التلاميذ الكبار، متحدين المطر الغزير.

كان المشهد مروعاً. من على حافة التل، شاهدوا الجسر الحديدي العتيق وهو يتهاوى ببطء في البداية، ثم بسرعة مروعة. كان صوت انحناء الحديد مفزعاً، يشبه صراخ وحش معدني. انفصلت الدعامات الرئيسية واحدة تلو الأخرى، وانهار الجسر كله في النهر الهائج، محدثاً رذاذاً هائلاً ارتفع عشرات الأمتار في الهواء.

قطع الحديد والخرسانة تطايرت في كل مكان، وارتطمت بالصخور المحيطة محدثة شرارات، بينما جرف التيار الهائج الأنقاض.

“يا إلهي!” صرخت أمل، وهي تغطي فمها بيديها، والدموع تختلط بقطرات المطر على وجهها الصغير. “كنا سنكون هناك… كنا سنكون على الجسر الآن!”

التفت الأطفال إلى عبد الكريم بعيون واسعة مليئة بالخوف والامتنان. فهموا الآن لماذا كان يصر على الطريق الطويل. لم يكن رجلاً عجوزاً عنيداً، بل كان ملاكاً حارساً.

“كيف عرفت؟” سأل زياد والده، صوته يرتجف. “كيف عرفت أن هذا سيحدث؟”

لم يجب عبد الكريم. كان يحدق في المشهد المروع أمامه، ويشكر الله في سره أنه استمع إلى إلهامه الداخلي. لو أنه رضخ للضغوط، لكانت الحافلة وكل من فيها الآن جزءاً من الأنقاض التي يجرفها النهر.


في القرية، بدأ القلق يتحول إلى هلع. مع انقطاع الاتصالات، لم يعرف الأهالي مصير أطفالهم. هل كانت الحافلة على الجسر عندما انهار؟

تجمع الناس في قاعة القرية، يحاولون الاتصال بأي شخص يمكنه إخبارهم بأخبار الأطفال. كانت أم سامر تبكي بصوت عالٍ، ندماً على كل كلمة قاسية قالتها عن عبد الكريم: “إذا كان قد أخذهم عبر الجسر، فأنا السبب! أنا من ضغط عليه!”

أم ياسر كانت تمسك بصورة ابنها، وتصلي بصمت، والدموع تنهمر من عينيها. كل الشكاوى والغضب الذي أظهرته صباحاً تحول إلى خوف ورجاء.


بحلول المساء، وصلت الحافلة إلى القرية بسلام، رغم أن الرحلة استغرقت وقتاً أطول بسبب العاصفة. كان عبد الكريم يقود بحذر شديد، متجنباً المناطق المنخفضة التي غمرتها المياه.

عندما دخلت الحافلة إلى ساحة القرية، هرع الأهالي نحوها بقلوب خافقة. كان المشهد مؤثراً: آباء وأمهات يركضون في المطر، بوجوه تعكس مزيجاً من الخوف والأمل.

عندما فتح عبد الكريم باب الحافلة، تدفق الأطفال خارجها، ليقعوا في أحضان أهاليهم الذين انهمرت دموعهم فرحاً وارتياحاً. كانت الصرخات والدموع والضحكات تختلط مع صوت المطر المتواصل.

غمرت أم ياسر ابنها بقبلات لا حصر لها، ثم أسرعت نحو عبد الكريم، وبدون تردد عانقته بقوة: “سامحني يا عم عبد الكريم! سامحني على كل كلمة قاسية! لقد أنقذت أطفالنا!”

أم سامر، التي كان زوجها يريد إقالة عبد الكريم، كانت تبكي بحرقة وهي تمسك بيده: “لن أنسى لك هذا المعروف ما حييت. كنت على حق طوال الوقت.”

الأطفال أنفسهم كانوا يعانقون عبد الكريم واحداً تلو الآخر، بمن فيهم سامر الذي كان يسخر منه في الصباح. الآن، كان الصبي يبكي ويعتذر: “كنت شجاعاً يا عم عبد الكريم. سأخبر الجميع بما فعلته من أجلنا.”

زياد، الذي كان يشعر بالخجل من والده صباحاً، كان الآن يقف بجانبه بفخر واعتزاز، يساعده في استقبال التهاني والشكر من الأهالي الممتنين. وضع يده على كتف أبيه وقال بصوت يملؤه الفخر: “أبي، لقد كنت على حق طوال الوقت. لم تكن أوهاماً، بل كانت حكمة وبصيرة.”

المدير مروان كان آخر من وصل إلى ساحة القرية، مبللاً بالمطر، ووجهه شاحب من الخوف والإرهاق. عندما رأى الأطفال بخير، ارتسمت على وجهه ابتسامة ارتياح عميقة. تقدم نحو عبد الكريم ببطء، والخجل باديٌ على ملامحه.

“سيد عبد الكريم،” بدأ حديثه بصوت متردد، “أنا… أنا آسف جداً. لقد أخطأت في حقك. اتهمتك بالأوهام، بينما كنت تحاول إنقاذ أطفالنا.”

هز عبد الكريم رأسه بتواضع: “لا عليك يا سيد مروان. كنت أعلم أن طلبي غريب وأن تفسيري غير منطقي. من الصعب أن تؤمن بشيء لا يمكن تفسيره.”

“لكن كيف عرفت؟” سأل المدير، والسؤال نفسه كان يتردد على ألسنة الجميع. “كيف عرفت أن الجسر سينهار اليوم بالذات؟”

وقف عبد الكريم صامتاً للحظات، والمطر ينهمر على وجهه المتعب، قبل أن يقول بصوت هادئ: “الأحلام… أحياناً تكون أكثر من مجرد أحلام. منذ شهر وأنا أرى نفس الحلم كل ليلة: الحافلة تعبر الجسر، والمطر ينهمر، والجسر ينهار بنا جميعاً. كنت أستيقظ مذعوراً، وصرخات الأطفال تملأ أذني.”

صمت الجميع، يستمعون بإنصات لكلماته. لم يعد أحد يسخر منه أو يتهمه بالخرف.

“في البداية، ظننت أنه مجرد كابوس،” تابع عبد الكريم، “لكن الحلم كان يتكرر بنفس التفاصيل كل ليلة. شعرت أنه تحذير… تحذير من شيء ما. وعندما رأيت العاصفة تقترب هذا الصباح، أيقنت أن اليوم هو اليوم الذي رأيته في أحلامي.”

أمل، الفتاة ذات الضفائر، تقدمت وأمسكت بيد عبد الكريم: “لقد أرسل الله لك رسالة، يا عم عبد الكريم. أرسلها لأنه يعلم أنك ستستمع.”

انتشر الخبر في القرية وما حولها كالنار في الهشيم. قصة السائق العجوز الذي أنقذ خمسة وعشرين طفلاً من موت محقق لأنه استمع إلى إلهامه الداخلي. وصلت وسائل الإعلام في اليوم التالي، على الرغم من الطرق المقطوعة والفيضانات، لتغطية القصة التي أصبحت حديث المنطقة بأكملها.

في مساء ذلك اليوم، اجتمع أهالي القرية في منزل عبد الكريم البسيط، حاملين معهم الطعام والهدايا. كان احتفالاً عفوياً، مليئاً بالامتنان والمحبة. حتى سامر، الذي كان يسخر منه، جاء مع والده رئيس المجلس البلدي ليقدم اعتذاراً رسمياً.

“لن تقود الحافلة غداً،” قال رئيس المجلس البلدي مبتسماً. “المدرسة معلقة حتى إشعار آخر بسبب العاصفة. لكنني أريد أن أعلن أن المجلس البلدي قرر منحك وسام الشجاعة والتفاني في حفل رسمي سيقام الأسبوع المقبل.”

صفق الجميع بحرارة، بينما ابتسم عبد الكريم بخجل: “لم أفعل شيئاً استثنائياً. فقط استمعت إلى قلبي.و كل ذالك بفضل الله”


مع مرور الأيام، هدأت العاصفة، وعادت الحياة تدريجياً إلى طبيعتها في قرية الوادي الأخضر. بدأت أعمال إعادة بناء الجسر، وكان من المقرر أن تستغرق عدة أشهر. في هذه الأثناء، أصبح الطريق الطويل الذي كان يسلكه عبد الكريم هو الطريق الرسمي للجميع.

في أحد الأيام، بينما كان عبد الكريم يجلس أمام منزله يشرب الشاي، جاءت أمل مع والدتها لزيارته. كانت الفتاة تحمل كراسة رسم وأقلاماً ملونة.

“عم عبد الكريم، هل تسمح لي برسمك؟” سألت بابتسامتها المعتادة. “معلمة الفنون طلبت منا أن نرسم بطلاً حقيقياً، وأنا اخترتك.”

شعر عبد الكريم بالدموع تترقرق في عينيه، وهز رأسه موافقاً. جلست أمل وبدأت ترسم بتركيز، بينما راقبتها والدتها بفخر.

“لولاك، لفقدت ابنتي،” قالت المرأة بصوت مرتجف. “كنت من أشد المعترضين على طريقك الطويل. كنت أتذمر كل يوم من التأخير. والآن، أشكر الله كل لحظة أنك كنت عنيداً وتمسكت بقرارك.”

أثناء عملية الرسم، كان زياد يراقب من بعيد، فخوراً بأبيه الذي أصبح رمزاً للحكمة والشجاعة في القرية.


مرت سنوات على تلك الحادثة. أعيد بناء الجسر، أقوى وأمتن من ذي قبل، وسُمي “جسر عبد الكريم” تخليداً لذكرى الرجل الذي أنقذ أطفال القرية

النهاية

خاتمة: الطريق غير المسلوك

تُذكرنا قصة “الطريق غير المسلوك” بأهمية الاستماع إلى الصوت الداخلي، حتى عندما يبدو غير منطقي للآخرين. من بين كل قصص قصيرة قبل النوم أو طويلة نقرأها، تبقى القصص التي تمس القلب وتحرك المشاعر هي الأكثر تأثيراً في حياتنا.

إن كنت تبحث عن المزيد من قصص قبل النوم ذات مغزى، فلا تتردد في مشاركة هذه القصة مع أحبائك وأصدقائك. قد تكون هذه القصة بداية حوار مهم عن قيمة الحدس وأهمية الشجاعة في حياتنا اليومية.

شاركنا تجربتك الخاصة في التعليقات: هل مررت يوماً بموقف استمعت فيه إلى حدسك رغم معارضة الآخرين؟ وهل كنت ستتصرف مثل عبد الكريم لو كنت مكانه؟ دعونا نتبادل قصصنا ونتعلم من تجارب بعضنا البعض. لا تنسَ مشاركة هذه القصة مع من تعتقد أنها قد تلهمه أو تساعده على اتخاذ قرار صعب في حياته.

ساعدنا في نشر هذه القصة الجميلة.

قصص جميلة في انضارك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *